فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف التستري:

قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [200] قال: الإيمان أربعة أركان: الأول التوكل على الله، والثاني الاستسلام لأمره، والثالث الرضا بقضائه، والرابع الشكر لنعمائه والتقوى.
باب الإيمان:
اليقين قلب الإيمان، والصبر عماد الإيمان، والإخلاص كمال الإيمان، لأن العبد بالإخلاص ينال التصديق، وبالتصديق ينال التحقيق، وبالتحقيق يصل إلى الحق. والإخلاص ثمرة اليقين، لأن اليقين مشاهدة السر، فمن لم تكن له مشاهدة السر مع مولاه لم يخلص عمله لله، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}.
أَقُولُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِقوله تعالى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَالظَّفَرِ، وَأَنَّنَا اخْتَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، وَمَا وَعَدَ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، رُبَّمَا يَسْتَبْطِئُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ إِيتَاءَهُمُ الْوَعْدَ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّصْرِ، وَالتَّغَلُّبَ عَلَى الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ كَمَا يَدُلُّ قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} [2: 214] فَجَاءَ قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} الْآيَةَ، تَسْلِيَةً لَهُمْ، وَبَيَانًا لِكَوْنِ الْإِمْلَاءِ لِلْكَافِرِينَ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ لَا يَصِحُّ أن يكون مَدْعَاةً لِيَأْسِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا حُجَّةً لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا عِنْدَ الشِّدَّةِ: {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [33: 12]، فَهَذَا وَجْهٌ فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أنه تعالى لَمَّا وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي نِهَايَةِ الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا فِي النِّعَمِ، ذَكَرَ اللهُ تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسَلِّيهِمْ، وَيُصَبِّرُهُمْ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ فِي أُولِي الألباب الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللهَ تعالى يَسْتَجِيبُ لَهُمْ بِالْأَعْمَالِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ، وَمِنْهُ الْمُهَاجَرَةُ، وَتَحَمُّلُ الْإِيذَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ فِي الْقِتَالِ حَتَّى يُقْتَلُوا؛ وَبِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ ثَوَابَ اللهِ تعالى، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ لِلْمُقَابَلَةِ، وَرَبَطَ الْكَلَامَ بِمَا قَبْلَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ، وَتَمَتُّعٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْعَلَ مَرْمَى طَرَفِهِ ذَلِكَ الثَّوَابَ الَّذِي وَعَدْتُهُ، فَهُوَ النَّعِيمُ الْحَقِيقِيُّ الْبَاقِي، وَهَذَا الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ، فَلَا تَطْلُبُوهُ، وَلَا تَحْفُلُوا بِهِ. يَسْهُلُ بِهَذَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا كُلِّفُوهُ مِنْ تَحَمُّلِ الْإِيذَاءِ وَالْعَنَاءِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ.
أَقُولُ: أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ: فَهُوَ لَا يَغُرَّنَّكَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الْمُؤْمِنُ، أَوْ لَا يَغُرَّنَّكَ يَا مُحَمَّدُ (قَوْلَانِ) تَقَلُّبُهُمْ، قَالُوا: وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أنه قَالَ: وَاللهِ مَا غَرُّوا نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. وَمَعْنَى غَرَّهُ: أَصَابَ غُرَّتَهُ، فَنَالَ مِنْهُ بِالْقَوْلِ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَفْطَنْ لِمَا فِي بَاطِنِ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْغِرَّةُ (بِالْكَسْرِ) غَفْلَةٌ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْغِرَارُ: غَفْلَةٌ مَعَ غَفْوَةٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنَ الْغَرِّ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْأَثَرُ الظَّاهِرُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ، وَغِرَارُ السَّيْفِ أَيْ حَدُّهُ. وَغَرُّ الثَّوْبِ: أَثَرُ كَسْرِهِ، وَقِيلَ: اطْوِهِ عَلَى غَرِّهِ، وَغَرَّهُ كَذَا غُرُورًا كَأَنَّمَا طَوَاهُ عَلَى غَرِّهِ اهـ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَّةِ (بِالْكَسْرِ) أَيِ الْغَفْلَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ، أَوْ يَتَّصِلُ بِهِ أَخْذُهُ مِنْ غَرِّ الثَّوْبِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ أَثَرُ طَيِّهِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالثَّنْيِ وَالْكَسْرِ، وَجُمِعَ الْغَرُّ عَلَى غُرُورٍ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَاطْوِهِ عَلَى غُرُورِهِ أَيْ مَكَاسِرِهِ، وَالْمُرَادُ: اطْوِهِ عَلَى طَيَّاتِهِ الأولى لِيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ غَرَارَةُ الصِّغَارِ (بِالْفَتْحِ) أَيْ سَذَاجَتُهُمْ، وَقِلَّةُ تَجَارِبِهِمْ يُقَالُ: فَتًى غِرٌّ، وَفَتَاةٌ غِرٌّ (بِالْكَسْرِ) وَقِيلَ: إِنَّ الْغُرُورَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِرَارِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ مِنَ السَّيْفِ، وَالسَّهْمِ، وَالرُّمْحِ حَدُّهَا، قَالُوا: غِرَّةٌ أَيْ خُدْعَةٌ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِلِ كَأَنَّهُ ذَبَحَهُ بِالْغِرَارِ. وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ وَبُعْدٌ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الْغُرُورِ: أَنَّ تَقَلُّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ آمِنِينَ مُعْتَزِّينَ لَا يَنْبَغِي أن يكون سَبَبًا لِغُرُورِ الْمُؤْمِنِ بِحَالِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَدُومُ لَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ إِبْقَاءِ الْأَشْيَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَعِلَلِهَا، وَالْغَوْصِ عَلَى بُطُونِهَا، وَدَخَائِلِهَا، كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ عَلَى غَرِّهِ، وَكَمَا يَنْظُرُ الْغِرُّ إِلَى ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَوَاطِنِهَا. وَمَنِ اكْتَنَهَ حَالَهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةَ عَلِمَ أَنَّ تَقَلُّبَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَتَمَتُّعَهُمْ بِالْأَمْنِ، وَالنِّعْمَةِ فِيهَا لَيْسَ قَائِمًا عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ، وَلَا مَرْفُوعًا عَلَى رُكْنٍ رَكِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ حَرَكَةِ الِاسْتِمْرَارِ لِمُحَرِّكٍ مِنَ الْبَاطِلِ سَابِقٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ، فَإِذَا عَارَضَهُ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْحَقِّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ يَمُوتُ مِنْ أَفْرَادِهِمْ عَلَى فِرَاشِ نَعِيمِهِ، وَلَمْ يُنْسَأْ لَهُ فِي أَجْلِهِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ مِمَّا نَالَهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالنَّتِيجَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَيْ ذَلِكَ التَّقَلُّبُ فِي الْبِلَادِ الَّذِي يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ عَاقِبَتُهُ هَذَا الْمَأْوَى الَّذِي يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهِ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ مُتَمَتِّعًا بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أُنْسِئَ لَهُ فِي عُمُرِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْخِذْلَانُ بِنَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلَبَ مِنْهُ مَتَاعَهُ، أَوْ نَغَّصَهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَسَيَأْتِي مَا لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ. وَجَهَنَّمُ: اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي يُجَازَى فِيهَا الْكَافِرُونَ فِي الْآخِرَةِ. قِيلَ: إِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ، وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَرَبِيَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْهَاءِ وَالتَّشْدِيدِ) أَيْ بِئْرٌ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ، فَجَهَنَّمُ إِذًا بِمَعْنَى الْهَاوِيَةِ. وَالْمِهَادُ: الْمَكَانُ الْمَهْدُ الْمُوَطَّأُ كَالْفِرَاشِ، قِيلَ: سُمِّيَتِ النَّارُ مِهَادًا تَهَكُّمًا بِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكَلِمَتَيْنِ فِي الْبَقَرَةِ.
قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ إِذْ كَانُوا يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَتَّجِرُونَ وَيَكْسِبُونَ، عَلَى حِينِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ لِوُقُوفِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَإِيقَاعِهِمْ بِهِمْ أَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ، وَعَجْزِ هَؤُلَاءِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ دَارِهِمْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ، وَقَدْ هَلَكْنَا مِنَ الْجُوعِ، وَالْجُهْدِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَتُصِيبُ الْأَمْوَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ بَيَّنَ تعالى فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مَأْوَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ فِي الْقِسْمَةِ غَيْرُ مَغْبُونِينَ، فَقَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ قَالُوا: إِنَّ النُّزُلَ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ النَّازِلِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا يُهَيَّأُ بِهِ، وَخَصَّهُ الرَّاغِبُ بِالزَّادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ نُزُلًا عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ لَكَ هِبَةً وَبَيْعًا وَصَدَقَةً. وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّاتُ نُزُلًا- وَهِيَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ- فَلَا جَرَمَ أن يكون النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ أَعْظَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَنَعِيمًا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَقَدْ وَعَدَهُمْ هَذَا الْجَزَاءَ عَلَى التَّقْوَى الَّتِي يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهَا تَرْكَ الْمَعَاصِي، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ يَكُونُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالْإِحْسَانِ لِلْأَبْرَارِ، فَقَالَ: وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَرَامَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى هَذَا النُّزُلِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ مَا عِنْدَهُ وَأَوَّلُ مَا يُقَدِّمُهُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَأَفْضَلُ مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَتَاعٍ فَانٍ، بَلْ وَمِمَّا يَحْظَى بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنْ نُزُلِ الْجِنَانِ. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لِلْأَبْرَارِ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ النُّزُلِ الَّذِي قَالَ أنه مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ نُكْتَةَ وَضْعِ الْمُظْهَرِ وَهُوَ قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللهِ} مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَبَّرَ بِهِ- لَوْ كَانَ هَذَا عَيْنَ ذَاكَ- تَظْهَرُ عَلَى هَذَا ظُهُورًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، وَبِهِ يَنْجَلِي الْفَرْقُ بَيْنَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَبَيْنَ الْأَبْرَارِ، فَإِنَّ الْأَبْرَارَ جَمْعُ بَارٍّ أَوْ بَرٍّ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْبِرِّ الَّذِي بَيَّنَهُ اللهُ تعالى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [2: 177] إلخ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي آيَاتِ الدُّعَاءِ الْقَرِيبَةِ فَشَرَحَ الْبِرَّ بِمَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ يُؤَيِّدُهَا مَا ذَكَرَهُ الرَّاغِبُ مِنْ أنه مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَرِّ- بِالْفَتْحِ- الْمُقَابِلِ لِلْبَحْرِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ التَّوَسُّعَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، فَهُوَ إذًا أَدَلُّ عَلَى الْكَمَالِ مِنَ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ أَسْبَابِ السُّخْطِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَتَحْصُلُ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِعْلِ الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّعٍ فِي نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ، وَذَكَرَ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِسْمَيْهِمُ- الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَالْأَبْرَارِ- بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا قُلْنَا.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّ مَنْ يُفَسِّرُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْرَاكًا، أَوِ اسْتِثْنَاءً مِنْ عُمُومِهَا، أَيْ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنِ اسْتَكْبَرْتُمْ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِمَّنْ أَصَرَّ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ إلخ. وَيَصِحُّ هَذَا أيضا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ، وَهُوَ عُمُومُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ آيَاتٍ: وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا عَلَيْهِ»، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ، نُصَلِّي عَلَى عَبْدٍ حَبَشِيٍّ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ.
وَنَقُولُ: إِنَّهَا تَشْمَلُ النَّجَاشِيَّ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ صَدَقَ عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَكَذَا الْمَجُوسُ عَلَى الْقَوْلِ بأنهمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْهُمْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ التَّنْزِيلِ إِلَّا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
عَلَى أنه كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. ثُمَّ رَاجَعْتُ الرَّازِيَّ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: وَاخْتَلَفُوا فِي نُزُولِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ حِينَ مَاتَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أنه يُصَلِّي عَلَى نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَأَسْلَمُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الأولى، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْعِقَابِ بَيَّنَ فِيمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الثَّوَابِ اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أنه بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهْتَدُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَكَانُوا مُهْتَدِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ لِلَّهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الإيمان بِالْكِتَابِ خَاشِعٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ هُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَهُوَ السَّائِقُ لَهُمْ إِلَى الإيمان بِالنَّبِيِّ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهَذَا الثَّمَنُ يَعُمُّ الْمَالَ وَالْجَاهَ، فَإِنَّ مِنْهُ التَّمَتُّعَ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ صَعْبًا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَلِفَهُ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُعِدُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِرِينَ لِأَجَلِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ السَّابِقِ، وَالدِّينِ اللَّاحِقِ، وَذَكَرَ إِيمَانَهُمْ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ- بِغُرُورِهِمْ بِكِتَابِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِمَا عِنْدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ- كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الإيمان، وَكَانَ مِنَ الْغَرَابَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِنَادِ وَمُكَابَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَسَدِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي إِيذَائِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بَعْضُهُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ قَلِيلِينَ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِهِمْ عِلْمًا، وَفَضْلًا، وَبَصِيرَةً، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَنَا الْأَذْكِيَاءَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَلَّمَا يَرْجِعُونَ عَنْ عَقِيدَةٍ، أَوْ رَأْيٍ فِي الدِّينِ جَرَوْا عَلَيْهِ، وَتَلَقَّوْهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَقَرَءُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، وَخَطَأً ظَاهِرًا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيدٌ لِكَوْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضِيقٍ خَيْرًا مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى حَالِ الْأَخْيَارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَيْفَ لَا يَحْفُلُونَ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ. بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ اللهِ تعالى، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَثَلِ وَالْأُسْوَة لِلْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ: وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ- إِحْدَاهَا: الإيمان بِاللهِ، يَعْنِي الإيمان الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ، وَلَا يُفَارِقُهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [2: 8] وَلَا مَنْ قَالَ فِيهِمْ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [12: 106] ثَانِيهَا: الإيمان بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَهُ الْهَيْمَنَةُ، وَالْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي الْخِلَافِ لِثُبُوتِهِ بِالْيَقِينِ، وَعَدَمِ طُرُوءِ الضَّيَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ.
ثَالِثُهَا: مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تعالى إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ ضَيَاعَ وَنِسْيَانَ بَعْضِهِ، وَطُرُوءَ التَّحْرِيفِ بِالتَّرْجَمَةِ، وَالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الإيمان بِهِ إِجْمَالًا، وَاتِّبَاعُ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ فِيهِ تَفْصِيلًا، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْعُمْدَةُ فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِ مَنْ خَالَفَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ الْقُرْآنِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الأولى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْهُ.
رَابِعُهَا: الْخُشُوعُ وَهُوَ ثَمَرَةُ الإيمان الصَّحِيحِ الَّذِي يُعِينُ عَلَى اتِّبَاعِ مَا يَقْتَضِيهِ الإيمان مِنَ الْعَمَلِ، فَالْخُشُوعُ أَثَرُ خَشْيَةِ اللهِ تعالى فِي الْقَلْبِ تَفِيضُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالْمَشَاعِرِ، فَيَخْشَعُ الْبَصَرُ بِالسُّكُونِ وَالِانْكِسَارِ، وَيَخْشَعُ الصَّوْتُ بِالْمُخَافَتَةِ وَالتَّهَدُّجِ، كَمَا يَخْشَعُ غَيْرُهَا.
خَامِسُهَا: وَهِيَ أَثَرٌ لِمَا قَبْلَهُ عَدَمُ اشْتِرَاءِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا بِآيَاتِ اللهِ كَمَا هُوَ فَاشٍ فِي أَصْحَابِ الإيمان التَّقْلِيدِيِّ الْجِنْسِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ مِلَّتْهِمْ، وَيَقَعُ مِثْلُهُ مِنْ أمثالهِمْ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا.
قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ لَهُمْ أَجْرُهُمُ اللَّائِقُ بِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمُ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِنِعَمِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ؛ أَيْ فِي دَارِ الرِّضْوَانِ الَّتِي نَسَبَهَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَلأهلهَا، بِخِلَافِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَسَلَفِهِمْ عِنَادًا حَمَلَهُمْ عَلَى كِتْمَانِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه الْحَقُّ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَهَرَتْ لَهُ حَقِيقَتُهَا كَمَا ظَهَرَتْ لَهُمْ، وَحَجَدَ وَعَانَدَ كَمَا جَحَدُوا وَعَانَدُوا فَلَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَكُتُبِهِمْ، وَلَا يَكُونُ إِيمَانُهُ بِاللهِ تعالى إِيمَانًا صَحِيحًا مَقْرُونًا بِالْخَشْيَةِ، وَالْخُشُوعِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَخْشَاهُ فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي آية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [2: 62] مِنَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا كَالَّذِينِ كَانُوا قَبْلَهُ.
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَصِيرٍ بِمَا يَكْشِفُ لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَتَمَثَّلُ لَهُمْ فِيهَا كُلُّ عَمَلٍ سَبَقَ مِنْهُمْ كَالصُّوَرِ الْمُتَحَرِّكَةِ الَّتِي تُمَثِّلُ الْوَقَائِعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِجَابَةُ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، وَإِيفَاءُ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيِ اصْبِرُوا عَلَى مَا يَلْحَقُكُمْ مِنَ الْأَذَى، وَصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَكُمْ لِيَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، وَيَخْذُلُونَ الْحَقَّ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَارْبُطُوا الْخَيْلَ كَمَا يَرْبُطُونَهَا اسْتِعْدَادًا لِلْجِهَادِ.
أَقُولُ: فَالْمُصَابَرَةُ، وَالْمُرَابَطَةُ، وَهِيَ الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُبَارَاةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُغَالَبَتِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَفِي رَبْطِ الْخَيْلِ كَمَا قَالَ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [8: 60] عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرَهُ الإسلام مِنْ مُقَاتَلَتِهِمْ بِمِثْلِ مَا يُقَاتِلُونَنَا بِهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِعَمَلِ الْبَنَادِقِ، وَالْمَدَافِعِ، وَالسُّفُنِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَالْعُدَدِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَرَاعَةِ فِي الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ، وَالطَّبِيعِيَّةِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ الْعَسْكَرِيِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمُرَابَطَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ، وَهِيَ مَدَاخِلُهَا عَلَى حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا إِذَا هَاجَمَهَا الْأَعْدَاءُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِرَبْطِ خُيُولِهِمْ، وَخِدْمَتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ.